مدينة النجف . . . تحدت الطبيعة وفرضت وجودها .
كانت مدينة النجف وما تزال من المدن التاريخية المهمة في العراق ، فقد استطاعت عبر قرون من الزمن ان تحقق حضوراً متميزاً بين المدن العربية الاصيلة من خلال موقعها الحضاري والديني ، اذ تعتبر هذه المدينة رافداً مهماً من روافد الحركة الاسلامية في مختلف مراحلها . ورغم ان الفضل الاكبر في نمو هذه المدينة وازدهارها وبروزها على الساحة الفكرية يعود الى وجود المرقد المقدس لامير المؤمنين علي بن ابي طالب ( ع ) منذ عام 40 للهجرة ، الا ان هذه المدينة في نفس الوقت وحسب ما نقل لنا العديد من المؤرخين تتمتع بقدسية خاصة ضربت في اعماق التاريخ منذ زمن نبي الله ابراهيم ( ع ) . وقد نشأت نشأةً جديدة بعد ان اخذ شيعة ومحبوا اهل بيت الرسول ( ع ) يسكنونها ويدفنون فيها موتاهم تبركاً بمجاورة الامام علي بن ابي طالب ( ع ) ، وهكذا ظهرت فيها الحوزة العلمية الدينية عندما اتخذ منها الشيخ الطوسي قبل الف عام تقريباً مقراً لتدريس العلوم الدينية ، واضعاً بذلك حجر الاساس للحوزة العلمية في النجف .
تاريخ النجف واشتقاق بعض تسمياتها .
يمتد تاريخ منطقة النجف الى عصر ما قبل الاسلام بمدة زمنية طويلة ، لا يمكن تحديدها وفق اطار زمني معين لكونها لا تزال بكراً وهي بحاجة الى الكثير من التنقيبات الاثرية لكشف الحقائق التاريخية التي لا تزال موضع حدس وتخمين من قبل الباحثين ، بحيث لا يمكن الاستناد عليها لرسم البعد التاريخي والحضاري لهذه المنطقة . وقد ظهر لهذه المدينة العديد من الاسماء في مختلف مراحلها التاريخية ، ووردت هذه الاسماء في كتب التاريخ والجغرافية واللغة والادب والحديث ، ومن اشهر هذه التسميات ( النجف ) وهي اكثرها استعمالاً في كتب اللغة والتاريخ والجغرافية والادب وكذلك في الاحاديث الدينية الواردة عن ائمة اهل البيت ( ع ) ، وهي التسمية الرسمية لهذه المنطقة في الوقت الحاضر . أما معناها اللغوي فهو من اصل عربي ويعني حسب ما اتفقت عليه الكثير من كتب اللغة الارض العالية التي تشبه المسناة وتصد الماء عما يجاورها وتغلب عليها الاستطالة دون الاستدارة . أما الاسم الخر فهو ( بانيقيا ) وهو اسم قديم قد يعود اليه السبب في قدسية هذه المدينة ، اذ ان هناك روايات تذكر ان ابراهيم ولوطاً ( ع ) مرا بهذه الارض خلال هجرتهما الى بيت المقدس ، وقد كانت تزلزل في كل ليلة فلما باتا فيها لم تزلزل تلك الليلة ببركة النبي ابراهيم ( ع ) ، ثم اشترى ابراهيم ( ع ) هذه الارض ببضعة اغنام ، وقد ورد ان الغنم بالنبطية يقال لها ( نقيا ) فاشتق هذا الاسم من هذه الحادثة . وقد اضفى القدسية على هذه الارض اضافة الى هذه الحادثة حديث لابراهيم ( ع ) عندما قال انه يحشر من ولده من ذلك الظهر سبعون الف شهيد . وللنجف اسماء اخرى مثل ( الطور والغري وظهر الحيرة او الكوفة ووادي السلام . . . ) وغيرها مما لا يتسع المجال لشرحها بالتفصيل . الا اننا نستنتج من ذلك ان تاريخ النجف يعود الى عصور قديمة سبقت ظهور الاسلام ، كما ان تاريخها لم يبدأ بنشوء مملكة الحيرة العربية كما يتصور البعض ، الا ان عدم الخوض في هذا الموضوع يعود الى قلة الروايات التاريخية الواردة في المراحل التاريخية لهذه المنطقة ، اضافة الى تضارب الكثير من النصوص التاريخية المرتبطة بنشوء مملكة الحيرة والتي يسودها الكثير من الخرافات والاساطير .
مناخ النجف وموقعها الجغرافي .
تقع المدينة القديمة للنجف على حافة الهضبة الغربية وهي الحافة الشرقية للصحراء الغربية ، محاذية للحدود الشرقية للمملكة العربية السعودية ، حيث يحدها من الغرب الهضبة الغربية وبحر النجف ، اما من الشرق فتحدها مدينة الكوفة والى الجنوب منها تقع ناحية الحيرة وتحدها من الشمال هضبة النجف . وهي بذلك تشغل المنطقة الانتقالية ما بين السهل الرسوبي والهضبة الغربية اللذين يشكلان انواع السطح في وسطها وجنوبها ، ويعتبر بحر النجف الحد الفاصل بين المنطقتين ، وقد شكل القسم الغربي من النجف منطقة لا تساعد على الاستيطان بسبب الصحراء الممتدة هناك ، بينما جنوبها الغربي الذي تتشكل فيه منطقة بحر النجف تظهر فيه امكانية التنمية الزراعية ، حيث توجد على اطراف هذا المنخفض وامتداده مساحة واسعة من الاراضي الزراعية تم الاستفادة منها بعد جفاف منخفض بحر النجف ، ولهذه الاراضي اهمية كبيرة لانها تكاد تكون المنطقة الزراعية الرئيسة ضمن حدود الهضبة الغربية في النجف . أما الى الشرق منها فتقع المناطق الزراعية الواسعة في الكوفة والفرات الاوسط ، لذلك فان مدينة النجف تعتمد على موارد المناطق المجاورة لها ، وقد جعلها هذا الموقع ضمن اقليم المناخ الصحراوي ذي المظهر الشتوي المقتصر على الفصل البارد من السنة بينما تصل درجات الحرارة في الصيف الى اكثر من 42 درجة مئوية في معظم ايامه ، والسبب هو بعد المسطحات المائية التي تقلل من هذا المدى الحراري وكذلك خلوها من الغطاء النباتي ، وقد اثر ارتفاع درجات الحرارة على الجانب العمراني للمدينة ، اذ عمد النجفيون الى حفر سراديب داخل بيوتهم ، وهي تبنى تحت الارض تتصل بالطابق الارضي بواسطة سلالم خاصة ، وتوجد فيها فتحات تتصل باسطح المنازل وتسمى باللهجة العامية ( البادكير ) وهي كلمة فارسية تعني ( الهوائي ) وتستخدم لتهوية السراديب ، كما توجد لهذه السراديب شبابيك تطل على الطابق الارضي من المنزل لوصول الضوء اليها .
ويمتاز مناخ مدينة النجف بقلة سقوط الامطار والمقتصرة على فصلي الشتاء والربيع بكميات قليلة تتباين من سنة الى اخرى ، مما ادى الى اعتماد السكان على المياه الجوفية او على جلب الماء من نهر الفرات بواسطة اناس يسمون ( السقاية ) ، وقد عانت المدينة طوال تاريخها حتى الوقت الحاضر من شحة المياه لانها تبعد عن شاطئ الفرات مسافة 10 كم ، ولأن الارض الفاصلة بين النجف والفرات تأخذ بالارتفاع من 26 م فوق مستوى سطح البحر الى 60 م ، وهذه المعاناة من شحة المياه اثرت على الكثافة السكانية للمدينة فقد ساعدت على هجرة السكان منها في بعض الفترات . لذلك فان طبيعة مدينة النجف من وضع وموقع ومناخ لم تكن تؤهلها لتصبح مدينة مأهولة بالسكان كما نرى اليوم ، الا ان العامل الديني الذي ارتبط بنشأة المدينة كان له الاثر الاكبر في نفوس السكان ، فدخلوا في صراع مع الطبيعة لتذليلها لصالحهم ، وقد اكتسبت هذه الايام اهمية سياسية بسبب وجود المرجعية الدينية فيها اضافة الى اهميتها التجارية والسياحية في المنطقة حيث اصبحت تضاهي في ذلك المدن العراقية الكبرى مثل بغداد والبصرة والموصل .
السبت 29 سبتمبر 2007, 4:39 am
