الحملات البابلية
اندمج الفلسطينيون بالكنعانيين، وظلت الحضارة الكنعانية مسيطرة في فلسطين، ورغم أن الفلسطينيين أخضعوا أنحاء كثيرة من البلاد لسيطرتهم ،فقد بقيت القدس بيد الكنعانيين ،إلى أن دخلها داوود – عليه السلام -حوالي الألف قبل الميلاد ،دون أن يتمكن من انتزاع أهلها اليبوسيين منها .
ولما كانت هذه الفترة شديدة التشوش وتنذر المكتشفات الأثرية حولها ، وتخضع لضغوط التوراة المحرفة ،فإن ما يمكن استنتاجه أساسا أن الحروب والصراعات قد ظلت دائرة في المنطقة وأن داوود دخل إلى مدينة معمورة ومسكونة .بعيدا عن ادعاءات الصهاينة وتحريفاتهم .
لم تعن هذه السيطرة إشاعة الاستقرار في المنطقة ، ومن المتصور أن الكنعانيين قد استنجدوا بأقربائهم من خلف العموريين ،الذين كانوا قد أقاموا دولا قوية في بلاد الرافدين .
ارتبط وجود مملكة داوود بصراعات داخلية وبصراعات مع المحيط الكنعاني ،قاد إلى انقسام المملكة نفسها إلى مملكتين.
أمام هذا الاضطراب ،قاد شيلمنصر الخامس الملك الأشوري حملة على المملكة الشمالية ، ولكن الذي أتم تفويضها كان سرجون الآشوري سنة سبعمائة وإحدى وعشرين قبل الميلاد وفرض الجزية على المملكة الجنوبية التي تضم القدس .ما بين عامي سبعمئة وخمسة ، وستمئة وواحد وثمانيين قبل الميلاد ،قام سرجون وخلفه سنحاريب بسلسلة من الحملات والعمليات الحربية ضد المدن الكنعانية والفلسطينية وبلغت ذروتها عام سبعمئة وواحد قبل الميلاد بحصار القدس.
وتذكر المصادر التاريخية أن ربشاقي القائد الآشوري جاء في جيش كبير ، ودك أسوار المدينة ، وكان رجاله مزودين بالسيوف والنبال والتروس والأقواس والرماح ، ولهم مركبات خفيفة يجر الواحد منها حصانان ، وكانتا لهم وسائل نقل منظمة .
لم تسقط القدس في هذه الحملة ، ولكن الآشوريين عادوا لمهاجمتها ، واحتلالها وأسروا ملكها في حينه "منسا بن حزقيا"، ما بين عامي ستمئة وثمانية وسبعين ،وستمئة وأربعة وأربعين قبل الميلاد ثم أطلقوا سراحه تمكن البابليون ، وهم من العمورييون ، من تحطيم الإمبراطورية الآشورية ،مستفيدين من توغل المصريين في عمق الإمبراطورية ،فاحتل البابليون نينيوى عام ستمئة واثنا عشر قبل الميلاد.
دانت أرض كنعان ، ومنها مملكة يهوذا الصغيرة للحكم البابلي الجديد ، وكانت تدفع له الجزية وجرى تصد للفرعون ينخحو الثاني أثناء تقدمه باتجاه بابل ،إلا أنه سحق المقاومة وتجاوز أرض كنعان ليلتقي بالبابليين عند الفرات ،وليتعرض لهزيمة قاسية على يد نبوخذ نصر .
ساعد المصريون يهوياقيم على تولي مملكة يهوذا بعد موت أبيه يوشيا ، ولكن ياقيم لم يستطع الصمود أمام تقدم قوات نبوخذ نصر ،فاحتل القدس سنة خمسمئة وست وتسعين قبل الميلاد ، وأسر سبعة آلاف مسلح وألف عامل ، وساقهم ومعهم يهودياقيم إلى بابل ، وهذا ما يطلق عليه السبي البابلي الأول.
وقام نبوخذ نصر ،بتعيين "صدقيا" ملكا على يهوذا إلا أن هذا حاول التحالف مع المصريين ضد البابليين ،رافضا دفع الجزية على غرار ما فعلت ممالك مدن كنعانية أخرى . أعد الزعيم البابلي ،حملة كبيرة أدت إلى حصار القدس سنة خمسمئة وسبع وثمانيين قبل الميلاد وبدعم الحامية المصرية الموجودة داخل المدينة ،صمدت القدس نحو عام كامل إلى أن اجتاحتها القوات البابلية سنة خمسمئة وست وثمانين قبل الميلاد ،وقامت بتدميرها ،فيما هرب صدقيا وبعض أفراد حاشيته ، ولكن رجال نبوخذ نصر لا حقوه واستطاعوا القبض عليه في شمال أريحا ،فحمل إلى الملك البابلي الذي أمر بقتله ، وساق نحو أربعين ألفا من الأسرى إلى بابل ، وهو ما يعرف بالسبي البابلي الثاني ، وفي هذه الحملة أخضع نبوخذ نصر مدنا كنعانية أخرى قبل أن يعود إلى بلاده ، وتكتمل ملامح إمبراطورية الواسعة .
حظيت الحملة البابلية على أرض كنعان وبلاد الشام ،بحيز واسع من اهتمام الرواة والإخباريين ،نظرا لأنها أسفرت عن تدمير القدس كما انها وضعت حدا للصراعات التي شهدتها المنطقة ، والتي استمرت منذ انتهاء السيطرة المصرية ،فيما كانت الفترة الآشورية حافلة بالاضطرابات أيضا .
لكن هذا الاهتمام الواسع يخضع في جانب كبير منه لمرويات التوراة المحرفة ،ولدس الإسرائيليات ، وبذلك فإن الحملات البابلية ،لم تعامل كما سواها ،كالمصرية والآشورية مثلا ،فيما بدا الصراع بين العموريين والكنعانيين وحتى بين الفلسطينيين والكنعانيين في مرحلة معينة أشبه بما يسمى اليوم "الصراعات الداخلية" .
سوف نستثني من هؤلاء الإخباريين والرواة ما قدمه اليعقوبي ،الذي تشوب أخباره ،تخليطات كثيرة ، وتأثير "إسرائيلي واضح ،حتى في معالجته لأحداث معروفة وموثقة ولكن سنجد مع ذلك أن الإخباريين الآخرين ،لم يتخلصوا تماما من تأثير التوراة المحرفة .
في الأنس الجليل يتحدث مجير الدين الحنبلي عن حادثتي السبي البابلي ويقول عن الحادثة الثانية :لما عصى صدقيا نبوخذ نصر ،قصد بخت نصر بيت المقدس بالجيوش ، وكان معه ستمئة راية ، ودخل بيت المقدس بجنوده ووطىء الشام. وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخربت بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ، ثم يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملأوه .
وتصل مبالغات الإخباريين والرواة حدا كبيرا عند وصف الجواهر والذهب الذي حمله نبوخذ نصر من القدس إذ يصل الوصف حدودا اسطورية لا يمكن تخيلها ، وكذلك الأمر فيما يتصل بكرسي سليمان .
يتحدث المؤيد ،مثلا ،عن أن نبوخذ نصر ،احتمل من القدس ثمانين عجلة ويقصد عربة من الذهب والفضة .
ويروي برهان الدين الفراري ،وصفا لما يسميه كرسي سليمان بأنه مصنوع من أنياب الفيله ، ومفصصا بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر .
وأكثر من ذلك فهو ينسب مقتل نبوخذ نصر إلى الحيلة السحرية الموجودة في الكرسي إذ لما حاول نبوخذ نصر الجلوس عليه ، وهو لا يعرف الكيفية الخاصة لهذا الجلوس ،انطلقت أداة من داخل الكرسي ،وضربته ضربة شديدة مات في إثرها .
وفي هذا ما يتنافى تماما مع سجل الأخبار البابلي الذي دون كثيرا من وقائع تلك الفترة ويجدر أن يكون مصدرا لدراستها .
مهما يكن من أمر ،فإن كثيرا من المؤرخين يعيدون إلى السبي البابلي ،انتشار اليهودية في أنحاء متفرقة من العالم القديم ،على أن هناك من يقدم روايات مخالفة لكل هذه الوقائع مقترحا إمكانية حدوثها جغرافية مختلفة .